في التاريخ الحديث للعراق، لكل مدينة قصة مأساوية خاصة بها. حكاية مدينة حلبجة هي حكاية هجوم كيماوي مروع ومذبحة للشعب الكردي. أدى هجوم عام 1988، الذي نفذه نظام صدام حسين، إلى مقتل ما يقرب من 5000 شخص وإصابة حوالي 10000 آخرين - مما تسبب في نزوح جماعي، وترك ندوبًا نفسية واجتماعية طويلة الأمد، وأغرق المدينة في سنوات من الاضطراب الاقتصادي. ثم في عام 2014، أدت حرب داعش والأزمة الاقتصادية في العراق وإقليم كردستان العراق إلى مزيد من التدهور في حلبجة وأوقفت التقدم في المدينة.

اليوم، وبعد مرور 34 عامًا على الهجوم الكيماوي، يعاني سكنة حلبجة من نقص الخدمات الأساسية والركود الاقتصادي. ولم يتم استئناف العديد من المشاريع الحكومية التي توقفت بسبب حرب داعش، وشهدت المدينة غيابًا للاستثمار العام منذ عام 2014.

ومع ذلك، في خضم تاريخ المدينة المظلم والتحديات الهائلة، فإن سعي شابٍ لكسب لقمة العيش يعمل على تغيير ثقافة حلبجة ومجتمعها.

إفتتح ساري البالغ من العمر 26 عامًا مؤخرًا مقهىً أصبح معلمًا بارزًا في مدينته. يقع في وسط المدينة ويتميز بجماليته وتصميمه الفريد، حيث يعتبر مقهى ميخَك نسمة من الهواء النقي لسكان حلبجة.

يقول ساري: "كنت أرغب دائمًا في امتلاك وإدارة مقهىً خاصٍ بي، أردت أن أصنع شيئًا مختلفًا - وهو شيء لم يتم القيام به من قبل في المدينة".

بالفعل، فإن مقهى ساري فريد من نوعه، فهو يجمع بين القديم والحديث في تناغم مميز - فمن الخارج، واجهة المقهى مكونة من طوب قديم من منزل قديم في حي محلي مهجور الآن؛ تشيع رؤية الخشب المتنوع في جميع أنحاء المدينة؛ تفصل الأسقف الفولاذية اللامعة والمساحات الزجاجية الحديثة المقهى عن العمارة الخرسانية المحيطة.

اما في الداخل، فهناك صور بالأبيض والأسود لشخصيات محلية ودولية من الماضي والحاضر معلقة على أحد الجدران - ممثلون وشعراء وقادة أكراد محبوبون إلى جانب وجوه تشارلي شابلن وجورج كلوني وآخرين. تزين الجدران المتبقية بكاميرات الأفلام القديمة والنصف الأمامي من دراجة نارية وجهاز الغراموفون الموسيقي - وهو نمط من الديكور الداخلي شائع في المقاهي الركنية الكلاسيكية في المدن العالمية حول العالم.

يوضح ساري حول خيارات التصميم الخاصة به: "أعتقد بأنه يجب القيام ببعض الأمور بشكل مختلف في المشروع التجاري، وإلا فلن تنجح. لدي اهتمام بالتفاصيل. في كل مكان أذهب إليه ، ألاحظ العناصر الدقيقة للمكان ".

في حين أن التصميم منعش بصريًا – فإن من النادر أن تجد مكانًا في حلبجة حيث يمكن للمرء الجلوس تحت صورة مؤطرة بالأبيض والأسود لمارلين مونرو واحتساء فنجان من الإسبريسو - وهذا ليس كل ما في المقهى. فقد أدى قرار ساري بعدم تقديم الشيشة (الأركيلة لتدخين خليط من التبغ المنكه) وحظر السجائر، إلى جعل المقهى مكانًا تقل فيه سيطرة الذكور مقارنة بالمقاهي الأخرى في جميع أنحاء المدينة ووجهة رئيسية للعوائل لقضاء وقت الفراغ. وبالفعل، فإن معظم المقاهي التقليدية في المنطقة تقيد دخول الرجال وحدهم؛ ونادراً ما يتم رؤية العوائل في مثل هذه الأماكن.

يقول ساري: "لا يوجد سوى أربعة مقاهي أخرى في المدينة حيث يمكن للمرء إحضار زوجته وأطفاله. كثير من الناس يطلبون مني تقديم الشيشة لأنها مربحة للغاية، لكنني لا أريد أن أفعل ذلك لأن العديد من زبائني المنتظمين هم من العوائل، ولا أريد أن أفقدهم."

على الرغم من أن التصميم يثني على المدينة وثقافتها، إلا أن المقهى يُعتبر أيضًا مساحة اجتماعية جديدة ومبتكرة في حلبجة. ويعتقد ساري أن المكان سيساهم بشكل إيجابي في تطوير الثقافة المحلية. على الرغم من أنه يتلقى أحيانًا تعليقات سلبية من أشخاص لا يوافقون على الأماكن التي يمكن للشابات والشبان الالتقاء فيها، يقول ساري إن المزيد والمزيد من الناس يمتدحون المقهى.

" في المدينة، هناك مختلف الأنواع من الناس، ومهما فعلت، يجب أن تتوقع ردود فعل إيجابية وسلبية، لكنني أعتقد أنه من المهم لمثل هذه المشاريع التجارية أن تتواجد حتى يتمكن المجتمع من التحول."

على الرغم من محاولات تحديث المدينة وتحقيق المزيد من الازدهار الاقتصادي لسكانها، فإن الكثير من تقدم حلبجة توقف بسبب حرب داعش والأزمة الاقتصادية اللاحقة.

يخبرنا ساري: "في حلبجة، لا توجد أنشطة ترفيهية أو أماكن كثيرة يمكن للشباب ارتيادها. لدي صديق يأتي هنا كل ليلة؛ أعتقد أنه من المحزن أنه ليس لديه مكان آخر لقضاء ايام شبابه ".

لم يكن وضع المقهى على الطريق الصحيح مهمة سهلة على ساري. فبعد حصوله على شهادة الدبلوم في 2018، أراد ساري أن يفعل شيئاً مميزاً - لم يتمكن من اختيار وظيفة تقليدية. بعد عامين والحجر الذي فرضته جائحة كورونا، كان ساري سعيدًا لإفتتاح مقهى الكرفان الخاص به. حيث قدم المشروبات الباردة والآيس كريم على طاولات خشبية صغيرة على الرصيف. وبعد شهرين، حل الشتاء في حلبجة، وابتعد الزبائن عن الأجواء المفتوحة للكرفان. وكانت تلك نهاية مشروع الكرفان.

ومع ذلك، لم يستسلم ساري. استأجر قطعة أرض شاغرة وبنى مقهى ميخَك من الألف إلى الياء. لم يكن لديه الكثير من المال لتجهيز المكان، وعلى الرغم من قيامه بمعظم الأعمال اليدوية بنفسه وتصنيع جميع الطاولات والكراسي بيديه، إلا أنه كان لا يزال مضطرًا لتحمل الكثير من الديون لإنجاح الأمور.

يقول ساري: "كان لدي دائمًا هذا الخوف من أن الناس ببساطة لن يأتوا إلى المقهى، وبأنني سأفشل، لذلك كنت سعيدًا جدًا عندما رأيت المقهى مليئًا بالناس، جالسين على الطاولات وعلى الكراسي التي عملت لأشهر لصنعها ".

ومع ذلك، بعد بضعة أشهر من افتتاح مقهى ميخَك، تعطلت آلة الإسبريسو باهظة الثمن الخاصة بساري. فزِعاً، كان ساري مدينًا جداً لشراء آلة أخرى. أخبره أحد الأصدقاء عن برنامج دعم سبل العيش الفردية التابع للمنظمة الدولية للهجرة في العراق واقترح عليه التقديم. كان طلب ساري ناجحاً، وحصل على دعم سبل العيش الفردية في أيلول 2021.

يهدف برنامج دعم سبل العيش الفردية إلى دعم تنمية رأس المال البشري من خلال التدريب المهني، والتدريب أثناء العمل، والإحالات إلى الوظائف، وتوفير حِزم بدء الأعمال التجارية أو توسيع الأعمال التجارية.

يبتسم ساري قائلاً: "كنت سعيدًا جدًا عندما تلقيت الدعم من المنظمة الدولية للهجرة. لم يأتي ذلك في الوقت المناسب فحسب، وتمكنت من شراء آلة إسبريسو أخرى، بل كان أيضًا دعمًا معنويًا كبيرًا لي ودفعني للاستمرار." حيث ساعده هذا الدعم في إبقاء أبواب ميخَك مفتوحة والحفاظ على الجودة المتميزة التي تجعل المقهى متفرداً.

بالنسبة لساري، فإن إبقاء أبواب ميخَك مفتوحة يعني أكثر من مجرد الحفاظ على مصدر رزقه، بل يعني أيضًا الحفاظ على الذكريات المبكرة لقصة حبه - في الواقع، كان صديقته ريجين بجانبه منذ فترة طويلة في تأسيس المقهى وعملت هناك منذ البداية.

يتذكر ساري: "واحدة من أفضل ذكرياتي هي طهي الطعام معًا في المطبخ. لم يرغب أي منا في العودة إلى المنزل وتناول الطعام في فترة ما بعد الظهر، لذلك كنا نبقى في المقهى ونعد وجبة بسيطة هناك."

بعد ستة أشهر من الافتتاح الكبير لميخَك، تزوج ساري وريجين. من المناسب إذاً أن كلمة ميخَك والتي تعني "القرنفل" في اللغة الكردية، وهي رمز للحب في الثقافة الكردية.

اليوم، لا تزال ريجين أحد الموظفين الثلاثة الذين يخدمون 50 مقعدًا في المقهى المزدحم.

يخطط ساري لتوسيع ميخَك وتوظيف المزيد من الموظفين لمساعدته على تنمية عمله المزدهر.

  

ويقول: "أريد أضافة الطعام إلى القائمة أيضًا، لكنني لا أريد الطعام التقليدي مثل البيتزا أو البرغر، أريد أن يكون الطعام مختلفًا ومميزًا".

"إذا كان لدي ما يكفي من المال، فسأبني المكان الأكثر استثنائية."